تعترض المغرب كسائر البلاد السائرة في طريق النمو ولا سيما منها العربية والإسلامية، مشكلات وقضايا كثيرة، وتواجهه – مثلها – تحديات عديدة تحتاج إلى أن تثار وتوضع على بساط الدرس والبحث؛ كما تحتاج إلى أن ينظر فيها بتأمل وتفكر؛ ثم هي تحتاج إلى أن يتدبر أمرها عبر رؤية واضحة وشفافة.

ونظرا لتعدد الموضوعات النابعة من هذا الواقع، وكذا تنوعها واتساع مجالاتها في الزمان والمكان، فإنه ليس من اليسير حصرها وتناولها كافة. وكنت قبل ثمانية أعوام، قد نشرت بعضا منها في الجزء الأول من هذا الكتاب. وإنه ليسعدني اليوم أن أتبعه بجزء ثان يضم نخبة أخرى منها، أعرضها على الرؤية نفسها.

* * * *

وإذا كنت قد ربطت تأمل هذه القضايا برؤية إسلامية، فلأن الرؤية السليمة – من حيث هي – تكاد تكون ضعيفة في النظر إلى مشاكلنا عامة، إن لم تكن منعدمة، على الرغم مما قد يكون متوافرا لهذا النظر من وسائل وإمكانات .

ولا شك أن الرؤية بما تعني من منظور للإنسان والكون والحياة، هي المنطلق لعمل العقل واستخلاص المنهج وتمثل القيم. وهي قيم عالمية وإن كان منطلقها الإسلام الذي يربط به هذا الكتاب تأمل القضايا المطروحة؛ أعني الإسلام في حقيقته وجوهره، وفيما يدعو إليه من اقتحام المجالات النافعة، وليس فيما علق به من بدع وشكليات فارغة، إن لم أقل ضالة ومنحرفة.

وهو أمر يحث على مزيد من التأمل لهذه القضايا، والإلحاح على مسألة الرؤية، ولا سيما أمام تحديات العولمة بجميع إكراهاتها وما تفرضه على فكر المجتمعات المختلفة، سعيا إلى صياغة جديدة لا شك في أنها عسيرة ومعقدة.

وحتى لا تكون هذه الصياغة طاغية عليها سلبيات العولمة المهددة بتجاوز الهويات ومحوها، فإن اعتماد مقوم أساسي من مقومات هذه الهويات – وهو الدين – يعين على بعث الأمل في عدم الوقوع في فخ تلكم السلبيات، وفي إمكان الإفادة مما في العولمة من إيجابيات واكتساب القدرة على تفعيلها.

إلا أن هذا الأمل لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وجدت الإرادة الصادقة للنهوض بالشخصية، بدءا من نقد ذاتي يبتعد عن الإطراء كما يبتعد عن الإحباط، ويساعد بعد ذلك على التحرر من مثبطات الماضي، والانطلاق من الحاضر، في نظر إلى المستقبل في مختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بوعي ومعرفة وإرادة وعزم على أداء الرسالة، وبأمل في استرجاع المكانة التي يستحقها المسلمون، والتي هم مؤهلون لها بأعدادهم المتزايدة، وبمواقعهم الاستيراتيجية وطاقاتهم البشرية وبما رزقهم الله من خيرات وثروات.

وإن استرجاع هذه المكانة لا يعني رفض الآخر أو الرغبة في عدائه ومحاربته، ولكن يعني الاقتدار على منافسته ومواكبة تقدمه، والإسهام في هذا التقدم بروح سلمية متسامحة تعتمد الأخذ والعطاء معه، في إطار من الاحترام والاعتراف المتبادلين.

* * * *

هذا، وتبعا لما كنت أعلنت عنه في الجزء الأول، فقد كانت النية أن أتناول في الثاني الذي هو هذا السفر، قضايا ثلاثة :

الأولى عن الربا والفائدة.

الثانية عن رؤية الهلال وإشكالية الحساب والتوحيد.

الثالثة عن مسألة الجنس في الإسلام.

تم بدا لي أثناء جمع مادة هذا الجزء أنها – أي هذه المسائل – تقتضي تناولا موسعا، مما جعلني ارتأي أن أتناولها مجموعة في الجزء الثالث، أو أن أفرد لكل منها سفرا خاصا إن شاء الله.

وهو ما دعاني إلى الإحجام عن تضخيم هذا الجزء الثاني من الكتاب، وإن كنت أدرجت فيه عرضا موجزا كنت قدمته عن "مسألة الهلال بين الرؤية، والتوحيد" في إطار أحاديث الخميس بأكاديمية المملكة المغربية.

والله ولي التوفيق

الرباط في 8 جمادى الثانية 1429

الموافق 12 يونيو 2008

              عباس الجراري